فصل: صيغة الأمر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: علم أصول الفقه



.صيغة الأمر:

وإذا ورد اللفظ الخاص في النص الشرعي على صيغة الأمر أو صيغة الخبر الذي في معنى الأمر أفاد الإيجاب، أي طلب الفعل المأمور به أو المخبر عنه على وجه الإلزام. فقوله تعالى: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، أفاد إيجاب قطع يد السارق والسارقة، وقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228]، أفاد إيجاب تربص المطلقة ثلاث قروء. واللفظ عند إطلاقه يدل على معناه الحقيقي الذي وضع له، ولا يصرف معناه الحقيقي غلا بقرينة، فإن وجدت قرينة تصرف صيغة الأمر عن الإيجاب إلى معنى آخر فهم منها ما دلت عليه القرينة كالإباحة في قوله: {كلوا واشربوا} [البقرة: 187]، والندب في قوله: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ...}على قوله: {.... مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، والتهديد في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، والتعجيز في قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23]، وغير ذلك مما تدل عليه صيغة الأمر بالقرائن. وإذا لم توجد قرينة اقتضى الأمر الإيجاب. وبعض الأصوليين ذهبوا إلى أن صيغة الأمر مشترك بين عدة معان ولابد من قرينة لتعيين احد معانيه شأن كل مشترك، فهو موضوع لمعان متعددة.
وصيغة الأمر لا تدل لغة على أكثر من طلب إيجاد الفعل المأمور به، ولا تدل على طلب تكرير الفعل المأمور به، ولا على وجوب فعله فوراً، فالتكرير أو المبادرة بالفعل لا تدل الصيغة عند إطلاقها على واحد منهما، لأن المقصود الآمر هو حصول المأمور به، وهذا المقصود يتحقق بوقوعه مرة في أي وقت، فإن وجدت قرينة تدل على التكرير كان هذا التكرير مستفاداً من القرينة لا من الصيغة. وكذلك إن وجدت قرينة تدل على المبادرة، ففي قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، استفيد تكرير طلب الصيام من تعليق الأمر به بشرط متكرر وهو شهود الشهر، كأنه قال: فكلما شهد أحدكم الشهر أحدكم الشهر وجب عليه الصيام، وكذا في قوله: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].
وفي الواجبات المحددة بأوقات استفيدت المبادرة من تحديد وقت للواجب يفوت بانتهائه.
وفي الأوامر بالخيرات استفيدت المبادرة من قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 123]، وقوله: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].

.صيغة النهي:

وإذا ورد اللفظ الخاص في النص الشرعي على صيغة النهي أو صيغة الخبر التي في معنى النهي أفاد التحريم، أي طلب الكف عن المنهي عنه على وجه الإلزام والختم. فقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، أفاد تحريم زواج المسلم بالمشركات، وقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229]، أفاد تحريم أخذ عوض من المطلقات، لأن صيغة النهي على الرأي الراجح، موضوعة لغة للدلالة على التحريم فيفهم منها عند الإطلاق. وإذا وجدت قرينة تصرفها عن المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي، فهم منها ما دلت عليه القرينة، كالدعاء في قوله: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8]، والكراهة في قوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [البقرة: 101]. وبعض الأصوليين ذهبوا إلى أن صيغة النهي من باب المشترك هي كالأمر والخلاف فيهما واحد.
والنهي يقتضي طلب الكف دائماً وفوراً، لأنه لا يتحقق المطلوب وهو الكف ألا إذا كان دائماً، بمعنى انه كلما دعت المكلف نفسه إلى فعل المنهي عنه كفها، فالتكرير ضروري لتحقق الامتثال في النهي، وكذلك المبادرة لأن النهي عن الفعل إنما هو تحريمه لتلاقي ما فيه من مضار، وهذا واجب في الحال, لأن من نهي عن شيء إذا فعله ولو مرة في أي وقت لا يتحقق أنه امتثل، فتكرير الكف وكونه على الفور من مقتضيات النهي، فصيغة النهي المطلق تقتضي الفور والتكرير، وصيغة الأمر المطلق لا تقتضي فوراً ولا تكريراً.

.القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية:

هذه القواعد التشريعية استمدها علماء أصول الفقه الإسلامي من استقراء الأحكام الشرعية، ومن استقراء عللها وحكمها التشريعية، ومن النصوص التي قررت مبادئ تشريعية عامة وأصولً تشريعية كلية، وكما تجب مراعاتها في استنباط الأحكام من النصوص تجب مراعاتها في استنباط الأحكام فيما لا نص فيه، ليكون التشريع محققاً ما قصد به موصلاً إلى تحقيق مصالح الناس والعدل بينهم:

.القاعدة الأولى: في المقصد العام من التشريع:

والمقصد العام للشارع من تشريعه الأحكام هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم، وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم.
فكل حكم شرعي ما قصد به إلا واحد من هذه الثلاثة التي تتكون منها مصالح الناس.
ولا يراعى تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي، ولا يراعى حاجي وتحسيني إذا كان في مراعاة أحدهما إخلال بضروري.
هذه القاعدة الأولى بيَّنت المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام الشرعية، سواء أكانت تكليفية أم وضعية، وبينت مراتب الأحكام باعتبار مقاصدها، ومعرفة المقصد العام للشارع من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها، وتطبيقها على الوقائع واستنباط الحكم فيما لا نص فيه.
لأن دلالة الألفاظ والعبارات على المعاني، قد تحتمل عدة وجوه، والذي يرجح واحداً من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع، لأن بعض النصوص قد تتعارض ظواهرها، والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها هو الوقوف على مقصد الشارع. لأن كثيراً من الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها بأي دليل من الأدلة الشرعية بنصوصه وروحه ومعقوله.
وكذلك نصوص الأحكام التشريعية لا تفهم على وجهها الصحيح إلا إذا عرف المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام، وعرفت الوقائع الجزئية التي من أجلها نزلت الأحكام القرآنية، أو وردت السنة القولية أو الفعلية.
فالمقصد العام للشارع من التشريع هو المبين في هذه القاعدة الأصولية الأولى وأما الوقائع الجزئية التي شرعت لها الأحكام فهي مبينة في كتب التفسير وأسباب النزول وصحاح السنة.
ومنطوق هذه القاعدة:
أن المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام هو تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة، بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم، لأن مصالح الناس في هذه الحياة تتكون من أمور ضرورية لهم، وأمور حاجية وأمور تحسينية، فإذا توافرت لهم ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسيناتهم فقد تحققت مصالحهم. والشارع الإسلامي شرع أحكاماً في مختلف أبواب أعمال الإنسان لتحقيق أمهات الضروريات والحاجيات والتحسينات للأفراد والجماعات، وما أهمل ضروريا ولا حاجيا ولا تحسينيا من غير أن يشرع حكماً لتحقيقه وحفظه، وما شرع حكماً إلا لإيجاد وحفظ واحد من هذه الثلاثة، فهو ما شرع حكماً إلا لتحقيق مصالح الناس وما أهمل مصلحة اقتضاها حال الناس لم يشرع لها حكماً.
أما البرهان على أن مصالح الناس لا تعدو هذه الأنواع الثلاثة: فهو الحس والمشاهدة، لأن كل فرد أو مجتمع تتكون مصلحته من أمور ضرورية وأمور حاجية وأمور كمالية، مثلاً: الضروري لسكنى الإنسان مأوى يقيه حر الشمس وزمهرير البرد ولو مغارة في جبل، والحاجي أن يكون المسكن مما تسهل فيه السكنى بأن تكون له نوافذ تفتح وتغلق حسب الحاجة، والتحسيني أن يجمل ويؤثث وتوفر فيه وسائل الراحة، فإذا توافر له ذلك فقد تحققت مصلحته في سكناه، وهكذا طعام الإنسان ولباسه وكل شأن من شئون حياته، تتحقق مصلحته فيه بتوافر هذه الأنواع الثلاثة له. ومثل الفرد والمجتمع، فإذا توافر لأفراده ما يكفل إيجاد وحفظ ضرورياتهم وحاجيتهم وتحسيناتهم، فقد تحقق لهم ما يكفل مصالحهم.
أما البرهان على أن كل حكم في الإسلام إنما شرع لإيجاد واحد من هذه الأمور الثلاثة وحفظه فهو: استقراء الأحكام الشرعية الكلية والجزئية في مختلف الوقائع والأبواب، واستقراء العلل والحكم التشريعية التي قرنها الشارع بكثير من الأحكام.
وقبل أن نعرض أمثلة من هذا الاستقراء نبين المراد شرعاً بالضروري والحاجي والتحسيني.
فأما الضروري:
فهو ما تقوم عليه حياة الناس ولابد منه لاستقامة مصالحهم، وإذا فقد اختل نظام حياتهم، ولم تستقم مصالحهم، وعمت فيهم الفوضى، والمفاسد.
والأمور الضرورية للناس بهذا المعنى ترجع إلى حفظ خمسة أشياء:
الدين والنفس، والعقل، والعرض، والمال، فحظ كل واحد منهما ضروري للناس.
وأما الأمر الحاجي:
فهو ما تحتاج إليه الناس لليسر والسعة، واحتمال مشتاق التكليف، وأعباء الحياة، وإذا فقد لا يختل نظام حياتهم ولا تعم فيهم الفوضى، كما إذا فقد الضروري، ولكن ينالهم الحرج والضيق.
والأمور الحاجية للناس بهذا المعنى ترجع إلى رفع الحرج عنهم، والتخفيف عليهم ليحتملوا مشاق التكليف، وتيسر لهم طرق التعامل والتبادل وسبل العيش.
وأما التحسيني:
فهو ما تقتضيه المروءة والآداب وسير الأمور على أقدام منهاج، وإذا فقد لا تختل حياة الناس كما إذا فقد الأمر الضروري، ولا ينالهم حرج، كما إذا فقد هذا الأمر الحاجي، ولكن تكون حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة.
والأمور التحسينية للناس بهذا المعنى ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وكل ما يقصد به سير الناس في حياتهم على أحسن منهاج.

.ما الذي شرعه الإسلام للأمور الضرورية للناس؟

الأمور الضرورية للناس كما قدمنا ترجع إلى خمسة أشاء: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وقد شرع الإسلام لكل واحد من هذه الخمسة أحكاماً تكفل إيجاده وتكوينه، وأحكاماً تكفل حفظه وصيانته، وبهذين النوعين من الأحكام حقق للناس ضرورياتهم.
فالدين هو مجوع العقائد والعبادات والأحكام والقوانين التي شرعها الله سبحانه لتنظيم علاقة الناس بربهم، وعلاقاتهم بعضهم ببعض. وقد شرع الإسلام لإيجاده وإقامته: إيجاب الإيمان وأحكام القواعد الخمس التي بني عليها الإسلام، وهي: شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وسائر العقائد، وأصول العبادات، التي قصد الشارع بتشريعها، إقامة الدين وتثبيته في القلوب باتباع الأحكام التي لا يصلح الناس إلا بها، وأوجب الدعوة إليه، وتأمين الدعوة إليه من الاعتداء عليها وعلى القائمين بها، ومن وضع عقبات في سبيلها.
وشرع لحفظه وكفالة بقائه وحمايته من العدوان عليه: أحكام الجهاد، لمحاربة من يقف عقبة في سبيل الدعوة غليه، ومن يفتن متديناً ليرجع عن دينه، وعقوبة من يرتد عن دينه، وعقوبة من يبتدع ويحدث في الدين ما ليس منه، أو يحرف أحكامه عن مواضعها، والحجر على المفتي الماجن الذي يحل المحرم.
النفس:
شرع الإسلام لإيجادها الزواج للتوالد والتناسل، وبقاء النوع على أكمل وجوه البقاء.
وشرع لحفظها وكفالة حياتها، إيجاب تناول ما يقيمها من ضروري الطعام والشراب واللباس والسكن، وإيجاب القصاص والدية والكفارة على من يعتدي عليها، وتحريم الإلقاء بها إلى التهلكة، وإيجاب دفع الضرر عنها.
وشرع لحفظ العقل تحريم الخمر وكل مسكر، وعقاب من يشتريها أو يتناول أي مخدر.
وشرع لحفظ العرض حد الزاني والزانية وحد القاذف.
شرع الإسلام لتحصيله وكسبه: إيجاب السعي للرزق وإباحة المعاملات والمبادلات والتجارة والمضاربة.
وشرع لحفظه وحمايته: تحريم السرقة، وحد السارق والسارقة، وتحريم الغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل، وإتلاف مال الغير، وتضمين من يتلف مال غيره، والحجر على السفيه وذي الغفلة، ودفع الضرر وتحريم الربا.
وكفل حفظ الضروريات كلها بأن أباح المحظورات للضرورات.
فمن هذا يتبين أن الإسلام شرع أحكاماً في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات تقصد إلى كفالة ما هو ضروري للناس بإيجاده وبحفظه وحمايته.
وقد دل على هذا القصد بما قرنه ببعض هذه الأحكام من العلل والحكم التشريعية، كقوله تعالى في إيجاب الجهاد: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} [البقرة: 193]، وقوله في إيجاب القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وقوله سبحانه: {لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} [البقرة: 188]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليل النهي عن بيع التمر قبل أن يبدو صلاحه: «أرأيت إذا منع الله الثمر بم يأخذ أحدكم مال أخيه»، إلى غير ذلك من العلل التي تدل على قصد الشارع حماية الدين والأنفس والأموال وكل ما هو ضروري للناس.